في آداب الحوار

قد تكون القدرة على الكلام والحوار من أهمّ ما يميّز الإنسان عن باقي خليقة الله. ومن دون التواصل الفعّال بين الإنسان وأخيه الإنسان، لن يستطيع واحدنا أن يفهم ما يريد الطرف الآخر أو أن يوصل رأيه للآخرين ويعبّر عن أفكاره واحتياجاته. ويبقى الحوار الحلقة المفقودة في الكثير من تعاملات البشر بعضهم مع بعض في هذه الأيّام. فكم من المشاكل والمنازعات وسوء الفهم يمكن تجنبّها لو أعطينا وقتاً للحوار وفي مداخلاتنا واستقبالنا لآراء الآخرين ومشاركاتهم!
 
والمقصود هنا هو أنّ السبب في المشكلات ليس أفعال الآخرين التي لا تروق لنا، بل السبب هو أنّنا ما زلنا غير مدركين لأهمية الحوار مع الآخر بحيث نقبل اختلاف آراء الآخرين من دون أن تسوء علاقتنا بهم، وهذا لا يأتي إلّا عندما نطلب من الله أن يليّن قلوبنا وقلوبهم أيضاً. علينا أن نصمت لنهدأ قليلاً ومن ثم نجيب الآخر بكلام النعمة، قد لا نقبل رأيه، ولكننا نقبله بشخصه كما هو، والتغيير في الفكر يأتي بشكل تدريجي لاحقاً.
 
تختلف المواضيع والجدالات التي نخوضها في حياتنا اليومية، فمنها نقاشات مهمّة ومصيرية، ومنها نقاشات تعتبر عادية ليست ذات أهمية كبيرة. في كل يوم، نقوم باتخاذ قرارات معينة، سواء على المستوى الشخصي، أم على مستوى العائلة، أو على مستويات أخرى. ولكن عندما يختلف الطرفان بالرأي، كيف يمكن أن يكون هذا الحوار بنّاءً؟ وما هي العناصر الواجب توافرها في الحوار لكي يتّصف بالرزانة والاحترام المتبادل؟ تعالوا نتناول هذه الأمور وغيرها في هذه المقالة التي تختص بالحديث في آداب الحوار بين طرفين يختلفان بالرأي.
 
آداب الحوار تعني عناصر الحوار وحدوده التي تضمن سلامته وتحقيق أهدافه السامية بين طريفين أو أكثر. ففي الحوار، علينا التواصل مع الآخر وليس فقط إيصال آرائنا إليه من دون الإنصات لما يريد أن يقوله. ففي الحوار يوجد مبدأ الأخذ والعطاء. فالسيد المسيح علّمنا أنّ العطاء أفضل من الأخذ، أي بمعنى أنّ إعطاء الوقت للآخر ليعبّر عن رأيه ومشاركته هو أفضل من أخذ الوقت لنقضيه فقط في الجدال والكلام عن موقفنا تجاه قضية معيّنة. فكما أنّك أنت تريد إيصال رأيك وتعليقك، هكذا الآخر أيضاً. ولا ننسى قول السيد المسيح بأنْ نفعل للآخرين ما نحبّ أن يفعلوه هم لنا.
 
بعض آداب الحوار:
 
1)   هادف: ويعني بأن يكون للحوار هدف سامي معين. الحوارات الغير بنّاءة هي حوارات بلا هدف أو أخطأت في إصابة الهدف. وما علينا نحن تجنبّه كأفراد وجماعات هو أن نسأل أنفسنا: ما هو الهدف من هذا الحوار؟ هل هدفه جيّد وسامٍ أم لا؟ وهل هدفه يرضى عنه الله ويقبله؟
 
2)   متواضع: يعلمنا الكتاب المقدس بأنّ التواضع هو صفة أساسية في حياة المؤمن، وبأنها اللباس الذي نتسربل به في معاملتنا اليومية. التواضع يجعل الآخر يقبل اختلاف آراءنا، إذ من خلال التواضع نحن نقول للآخر: أنا أحترمك وأحبّك لأنّ المسيح دفع فينا نفس الثمن على الصليب. فأنت مساوٍ لي في القيمة، ولكن اختلافك في الرأي لا يؤثّر على محبتي وقبولي لك.
 
3)   منصت: الإنصات يختلف عن الاستماع. فالاستماع هو أن تسمع مثلاً أصوات كثيرة من حولك، ولكنّ الإنصات أو الإصغاء هو أن تسمع بانتباه وتدقيق عن قصد لصوت واحد معين. فنحن لا يمكننا أن نصغي لأكثر من صوت في نفس الوقت. ولذلك، علينا أن نضع تركيزنا على ما يقوله الطرف الآخر، بحيث نعرف ما رأيه وموقفه فعلاً من هذا الأمر وكيف يمكن أن نجيبه لاحقاً. فلو أصغينا بشكل جيد في حواراتنا، لاختصرنا الكثير من الوقت على "سوء الفهم" الناتج من سوء الإصغاء والانتباه. فالله قد وضع للإنسان أذنين وفماً واحد لكي يسمع أكثر من أن يتكلم. لذا علينا أن ندرّب موهبة الإصغاء هذه لكي تكون أيضاً كعلامة بأننا نحترم الطرف الآخر.
 
4)   بنّاء: هل رأيت يوماً بيتاً على قيد الإنشاء؟ ما الوقت الذي يستلزمه البيت ليتمّ بناءه بالكامل؟ وما هي المدة التي تحتاجها شاحنة لهدم هذا البيت؟ كما نعرف، إنّ الوقت المستلزم للبناء أطول بكثير من وقت الهدم. وهذا ينطبق على حواراتنا ونقاشاتنا، فيمكن أن نتعاون على جعل الحوار بنّاءً، ولكن بكلمة صغيرة وسوء فهم قد نهدم كل ما بنيناه. علينا أن نتحلّى بالصبر في هذه الحالة، وأن لا نسمح لإبليس بزيادة المنازعات التي بيننا بجعلنا نغضب بسرعة ونتفوّه بكلمات لا تليق بنا كمؤمنين بالرب.
 
5)   ثابت: يجب أن يكون الحوار ثابتاً، أي بمعنى، يجب أن لا ننجرف بعيداً عن الموضوع الذي يتم المناقشة فيه. فمن آداب الحوار، هو أن نتلزم بالموضوع أو النقاش لأنّنا بذلك نتمكّن من الحصول على الاستفادة القصوى من حوارنا مع الآخر. لذا ينبغي أن تبقى تعليقاتنا في صلب الموضوع أو تقود إلى الموضوع ذاته.
 
6)   مُدعَّم: الحوار الذي يكون مدعوماً بأدلّة وبراهين هو حوار يتّصف بالمصداقية والشفافية. حتّى لو لم نمتلك إجابة واضحة على سؤال معيّن ــ كما يريد الآخر أن يُجاوَب على أسئلته ــ إلّا أنّنا يمكننا الإجابة ببساطة "هكذا مكتوب، أو هكذا أعرف". لا يجب أن نعطي أدلة مغلوطة أو غير صحيحة على أجوبتنا، لأنه بهذا تضعف مصداقيتنا أمام الطرف الآخر. فمن الأفضل أن نقول "لست متأكداً" على أن نأتي بأدلة غير صحيحة فقط من باب الإتيان بالحجّة والبرهان.
 
7)   عدم المقاطعة: من آداب الحوار هو عدم مقاطعة الآخر عند التكلم، بل علينا أن نعطيه وقته الكافي الذي يساعده في تكوين فكرته وتوضيحها بشكل كامل نسبياً كي نستطيع نحن أن نفهم قصده ورأيه في موضوع معين. هذا الأمر يساعدنا نحن حتّى نبني أرضاً مشتركة تتسم باحترام الآخر كما علّمنا السيد المسيح أن نكون ودعاء كالحمام.
 
8)   الشكر قبل النقد: من أهم آداب الحوار التي يفتقر إليها العديد من الناس هي الشكر قبل النقد. قبل أن نبدأ بمجاوبة الآخر، من الجيّد أن نشكره في البداية ومن ثم أن نبدأ بإعطاء رأينا أو نقد آراء الطرف الآخر والرد عليها.
 
9)   تكلّم الحواس: إنّ النظر إلى الآخر بينما نتكلم إليه أو بينما هو يتكلّم إلينا يشكّل أهمية كبيرة في الحوار. فهذا من شأنه تقديم الاحترام للآخر والذي ينعكس على تعامل السيد المسيح مع الآخرين من حوله حيث كان يخصّص وقتاً للاستماع إليهم ومجاوبة أسئلتهم بشأن الأمور المتعلّقة بملكوت السموات. فكم بالحري نحن بحاجة إلى أن نكون أشخاصاً نقدم الراحة للآخرين من خلال حوارنا معهم فيجدوا أنّ أتباع السيد المسيح وتلاميذه يتشبّهون به بطول الأناة والوداعة والصبر!
 
10)         تلخيص النقاط: من الجيد أن نقوم بتلخيص نقاطنا قبل الانتقال إلى موضوع جديد أو زاوية جديدة في الحوار أو ربما قبل إعطاء الشخص الآخر فرصة للتكلم كي يتمكّن من معرفة رأينا بوضوح أكبر وعدم وجود سوء فهم لاحقاً.
 
وأخيراً فها قد عرفنا بعضاً مِن آداب الحوار التي إن فعلناها فنحن بذلك نجري حواراً فعّالاً وبنّاءً قادراً على إتاحة الفرصة لكلا الطرفين في التعبير عن آرائهما بكل حرية واحترام.
 
دعونا نتذكّر دائماً أنّ الحوار الصحي الناجح هو الحوار الذي يدرك حتمية الخلاف في الرأي بين البشر، وفي نفس الوقت يعترف بالآخر وبحقه في الاختلاف في الفكر والرأي. هو حوار يحترم الآخر ولا يسعى إلى إقصائه. وهو حوار له آدابه التي إذا التزم بها الطرفان المتحاوران وصلا إلى غاية الحوار الأعلى والأهم، وهي التواصل والتلاقي والتفاهم بين الناس بالرغم من اختلافهم في الآراء والمعتقدات والأفكار.
 
 

نحبّ أن نسمع منك، فأسئلتك وتعليقاتك هي دائماً موضوع اهتمامنا!