مراد - التلميذ المنبوذ

هل تريد أن تعرف مَن هو مُراد؟ دعني أصفه لك لتتعرَّف عليه وتـُشكـِّل فكرة عنه. إن مراد فتى أسمر البشرة، شعره أجعد، رائحة رجلية كريهة، ثيابه قذرة تنبعث منها رائحة نتنة، يذهب إلى المدرسة بحقيبة ممزقة ومتـَّسخة، ويضع فيها كراساته وكتبه الدراسية التي هي بدورها أيضاً في حالة رديّة إذ أنَّ أوراقها مُشققة ووسخة، حتى أنك تشمئز أن تقلب صفحاتها أو أن تنظر فيها لتقرأ الكلمات في سطورها!
 
زملاؤه في الفصل يسخرون منه ويستهزئون به ويقولون: "هل استحمَّ مراد مِن قبل؟"، "ما اللون الأصلي لحقيبته يا ترى؟"، "ليته انتسب إلى فصلٍ آخر غير فصلنا!"، "لماذا تسمح له المدرسة أن يدرس معنا؟"، "إنه مِن مستوى وضيع وحقير جداً، لا يجدر به أن يكون في وسطنا!".
 
كان دائم الجلوس بمفرده في المقعد الأول بالجهة اليسرى من الفصل (الصف). يبقى جالساً في الفصل أثناء فترات الاستراحة، ينظر من النافذة إلى التلاميذ وهم يتسامرون ويضحكون بعضهم مع بعض، بينما يجلس هو حزيناً وحيداً دون أنيس أو صديق. لم يرغب أحد أن يتحدَّث معه، ولم يُشفق عليه أحد.
 
لم يُنبذ مِن باقي الطلاب لِمُجرَّد قذارته وانبعاث رائحته، فقد كان أيضاً متأخرًا في دراسته، في الرياضيات، والتاريخ، والجغرافيا، واللغة الإنجليزية. كان مراد بحاجة إلى مساعدة إضافية من المُدرِّسين، وكنا جميعاً نشكُّ في قدرته على تحقيق النجاح في دراسته الثانوية.
 
كوني واحداً مِن أساتذته، كنتُ ابتسم له في كثير مِن الأحيان لأشجِّعه وأشعره باهتمامي، لكنني كنت أفعل ذلك مِن بعيد بعد أن أتأكد مِن وجود مسافة كافية بيني وبينه لأحمي نفسي من الرائحة الكريهة المنبعثة منه.
 
كان مراد أسوأ طالب في حصة اللغة الإنجليزية، وأعتقد أنه كان يكره الشِعر والقراءة بصوت مرتفع إذا طـُـلِبَ منه ذلك. كان يشعر بالرهبة والرُّعب في كل مرة أطلبُ فيها منه أن يقرأ، لأنه كان يلفظ الحروف والكلمات بطريقة خاطئة، وهذا ما جعل زملاءه في الفصل (الصف) يضحكون عليه ويسخرون منه.
 
في ذات يوم، خرج كل الفصل (الصف) لاستراحة قصيرة، لكنَّ مراد ظلَّ جالساً في مقعده استعدادًا للفحص الذي كانوا سيخضعون له بعد الاستراحة. فتجرَّأت واقتربت منه وسألته إذا كان يرغب في الحصول على مُساعدتي في فهم القصيدة الشعرية الجديدة التي كانت صعبة بعض الشيء. فأعرب مراد عن موافقته. وبينما كنت أشرح له بيوت القصيدة، وقعت عينيَّ، فجأة على إحدى الصفحات المُمزّقة والمتـَّسخة والتي كانت ملطـَّخة بمادة لزجة!
 
فسألته: "ما هذا؟"
 
فقال بكل خجل بينما طأطأ رأسه إلى الأسفل واعترف لي بصوت خافت: "إنه أرز مسلوق أستخدمه لأصلق به الأوراق الممزقة للكتاب. فأنا لا أستطيع توفير المال الكافي لشراء مادة لاصقة! أنا وأمي فقراء للغاية. وكتبي هذه كتب مستعملة أعطاها لي مُدرِّس متقاعد".
 
أصبتُ بصدمة شديدة وذهِلتُ بالفعل عند سماعي هذا الكلام، وأعتقد بأنَّ وجهي قد احمرَّ لونه مِن شدَّة انفعالي وخجلي. بعد أن انتهى شرحي لمراد، وانتهى وقت الفحص والامتحان، ذهبتُ إلى غرفة الأساتذة وأخبرتُ كافة زملائي بهذا الموقف المُخجل الذي وُضِعُت فيه، والحالة السيئة التي كان مراد يُعاني منها. لم يكن لمراد سوى زيٍّ مدرسي واحد ، كان يغسله بيديه، وكانت والدته - غير المتعلمة، تحصل على القليل جداً من المال الذي غالباً ما لا يكفي حتى لشراء الطعام له ولها!
 
في صباح اليوم التالي، عندما دخل مراد ليجلس على مقعده، وجد علبة لاصق كبيرة، وعلبة أقلام، وزوج من الجوارب، وكرَّاسات جديدة، وزي مدرسي جديد. ولدهشته الفائقة، نظر إليّ بعينين تملأهما الدموع وجرى مسرعاً خارج الفصل.
 
تبعنا مراد إلى الخارج، فوجدناه يبكي تحت السلم (الدرج). ثم قال بصوت خافت: "شكراً". وعندما عدنا إلى الفصل، كان هناك إثنين من الطلاب جالسين على المقعد بجانبه. فنظر إليهما بابتسامة كبيرة والدموع تنهمر من عينيه.
 
ابتداءً من هذا اليوم، كان زملاء مراد يُفاجئونه بطرق غير مباشرة بكثير مِن الأشياء التي كان هو بأمسّ الحاجة لها. وبسبب هذا الاهتمام، تغيَّر مراد إلى الأفضل، وظهرت البسمة على وجهه، وتغلـَّب على الصعوبات التي كان يواجهها في المواد الدراسية، حتى أن لفظه للحروف والكلمات باللغة الإنجليزية تحسَّن بصورة كبيرة، ولم يعد يجلس وحيداً أثناء فترات الاستراحة بل اندمج مع الطلاب وكوَّن علاقات طيبة معهم.
 
إن الشيء العجيب بالفعل لم يكن تغيُّر مراد، بل تغيُّرنا نحن. فمُراد كان سببًاً في تغيير تصرفاتنا وأفكارنا ونظرتنا له وللكثيرين مِن حولنا. لقد ساعدنا لنتعرَّف أكثر على البركات التي كنا نتمتع بها والتي لم نحسب لها حساباً ولا حتى شكرنا الله عليها. وقد ساعدنا أيضاً لنعرف أهمية إظهارنا العطف والحنان بدلا مِن القسوة في الأحكام، وألا نكون متعجرفين مغرورين بأنفسنا وحالنا.
كنا نعلم بأن مراد كان تلميذاً فقيراً مادياً، لكننا اكتشفنا أننا كنا فقراء روحياً! يا له من درس ينبغي علينا جميعاً أن نتعلمه.
 

نحبّ أن نسمع منك، فأسئلتك وتعليقاتك هي دائماً موضوع اهتمامنا!