عبيد لله أم أبناء الله؟

قد يبدو الأمر جديداً للبعض إذا علموا بأنَّ الكتاب المقدس يحتوي على التعبيرين: عبيد الله وأبناء الله، إلا أن التركيز الأكبر هو على أبناء الله. لنلقِ نظرة على بعض المراجع الكتابية التي تظهر لنا جواز استخدام التعبيرين ومفهوميهما.
 
لقد تمَّ استخدام تعبير أبناء الله أولاً في سفر التكوين الأصحاح 6 والعدد الثاني، إذ وُصِفَ المؤمنون بالله بأنهم أبناء الله، وتقول الآية: "وحدث لما ابتدأ الناس يكثرون على الأرض وولد لهم بنات، أنّ أبناء الله رأوا بنات الناس أنهن حسنات. فاتخذوا لأنفسهم نساء من كل ما اختاروا". وفي مزمور 29 والآية الأولى، يقول النبي داود - كاتب المزمور، واصفاً أيضاً المؤمنين بالله بأنهم أبناء الله، فتقول الآية: "قدِّموا للرب يا أبناء الله قدموا للرب مجداً وعزاً". أما في العهد الجديد من الكتاب المقدس، فسنأخذ مثال العظة التي ألقاها السيد المسيح على الجبل والتي ذكرت في إنجيل متى الأصحاح 5، وسنقف عند الآية 9 التي يصف بها السيد المسيح صانعي السلام بأنهم "أبناء الله يُدعون". ثم يُكمل السيد المسيح حديثه في عظته المشهورة تلك والتي تحتوي على أسمى التعاليم السماوية والرَّبانية ليوضح بأنَّ كل مَن يُحب عدوّه ويبارك لاعنه ويُحسن إلى مبغضه ويصلي لأجل مَن يسيء إليه ويطرده يكون ابناً مِن أبناء الله (راجع الفقرة المذكورة في إنجيل متى الأصحاح الخامس وابتداءً من العدد 43). وفي العهد الجديد أيضاً وفي الرسالة إلى أهل غلاطية الأصحاح 3 نجد أيضاً بأننا "جميعاً أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع"، وفي الرسالة إلى أهل رومية الأصحاح 8 تقول الآية: "لأن كل الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله".
 
فالكتاب المقدس يُعرِّف أو يصف المؤمنين بأنهم أبناء الله، كما يصفهم في أماكن كثيرة أخرى بأنهم أبناء النور أو أبناء الملكوت أو أبناء الوعد وغير ذلك مِن تعابير هدفها نقل صورة مُعيَّنة أو مفهوم معيَّن يرتبط بالفقرة التي يُذكر فيها ذلك التعبير.
 
أمّا بالنسبة لعبيد الله، فهذا أيضاً مصطلح مُستخدم في الكتاب المقدس كما ذكرنا في البدء، ومعنى العبودية فيه هو العبادة، وليس بمعنى عبيد أي حُقراء، أو أذلاء، أو غرباء، أو مملوكين، أو مسلوبي الإرادة، أو حتى مُجبَرين على العبادة والعبودية نتيجة القسوة والامتلاك والتـَّسلـُّط. ففي سفر أخبار الأيام الثاني الأصحاح 6 وفي صلاة الملك سليمان عند تدشين الهيكل الذي بناه لعبادة الله وتقديم الذبائح فيه، صلى الملك سليمان صلاة رائعة وذكر فيها مفهوم العبادة والعبيد عدَّة مرات، وإليك بعض الآيات المذكورة:
"أيها الرب... لا إله مثلك في السماء والأرض حافظ العهد والرحمة لعبيدك السائرين أمامك بكل قلوبهم. الذي قد حفظت لعبدك داود أبي ما كلمته به... فالتفت إلى صلاةعبدك (سليمان) وإلى تضرعه أيها الرب إلهي واسمع الصراخ والصلاة التي يصليهاعبدك أمامك... إن أخطأ أحد إلى صاحبه ووضع عليه حلف ليحلفه وجاء الحلف أمام مذبحك في هذا البيت فاسمع أنت من السماء واعمل واقضي بين عبيدك إذ تعاقب المذنب فتجعل طريقه على رأسه وتبرر البار إذ تعطيه حسب بره..."
كما أن الكتاب المقدس يصف بعض الأنبياء والرسل بأنهم كانوا عبيداً لله إذ نقرأ أيضاً في:
 
       رؤيا 15: 3 "موسى عبد الله"
       يعقوب 1: 1 "يعقوب عبد الله"
      تيطس 1: 1 "بولس عبد الله"
      دانيال 6: 20 "دانيال عبد الله"
 
وفي رسالة الرسول بطرس الثاني والآيات 11-16 يوصينا الرسول بأن تكون سيرتنا حسنة وأن نكون خاضعين للسلطات وأن نفعل الخير كأحرار وليس كالذين الحرية عندهم هي سترة للشر فيفعلون الخطأ ويتجاوزون القانون (الأرضي والسماوي) ويهملون التعاليم والوصايا التي أعطانا إياها الله في كتابه ومن خلال أنبيائه ورسله... بل تؤكد الآية لتقول: "كعبيد الله" أي الحافظين وصاياه والعاملين بها والسائرين بحسب تعاليمه والواضعينه الأول في حياتهم وفي كل أعمالهم.
 
والآن، المعضلة في الأمر وفي التحيّز لأحد المصطلحين دوناً عن الآخر أمر غريب بعض الشيء، خاصة بعد أن عرفنا بأن المصطلحين مذكوران في الكتاب المقدس. ولكن الدافع الأساسي لهذا التحيّز – وعلى الأغلب، هو معنى كلمة عبد ومفهومها والقصد منها. فكلمة عبد، في كثير مِن اللغات مُشتقة مِن العبودية والاستعباد والخضوع والذل والاحتقار والإهانة والإكراه والإجبار والتملـُّك والتسخير وغيرها من المفاهيم السلبية التي لا يرضى الله أن تحصل لأي مخلوق من خلائقه. إلا أن مفهوم أو معنى كلمة عبد في اللغة العربية هو أوسع وأشمل من المعاني السلبية فقط، فهي إما أن تعني:
 
 
      
 العبد أي المملوك - غير الحر.
     
  العبد الخاضع والذليل والمرتبطة بمعنى العبودية والاستعباد.
      
العبد قد يكون إنساناً أسود البشرة (هذا ما وصف في اللغة العربية مع أننا لا نستخدم حالياً هذا اللفظ لعدم جواز العنصرية والتمييز ما بين البشر من ناحية اللون أو العرق أو الجنس)
      
 التعبيد هو التذليل، فيُقال طريق مُعبَّد أو طريق تمَّ تعبيده.
     
  وقال الأَزهري وغيره أيضاً: اجتمع العامة على التفرقة ما بين عِباد الله وعبيد المماليك، فقالوا: هذا عَبْدٌ من عِباد الله، وهؤلاء عَبيدٌ مماليك.
    
   العبادة وهي كلمة مشتقة من نفس الأصل (عبد) وتعني الطاعة والتوقير والاحترام والتقديس والإكرام والتمجيد. فالعبادة هي إظهار تكريس عميق ومخلص بالإضافة إلى الاحترام والتوقر لله. فأن تكون عبداً لله، هو بمعنى أن تكون مكرساً له بالكامل وأن تقدِّم له المحبة والاحترام والتوقير والإجلال اللائق به وليس بسواه.
     
  المُتعبِّد هو المتفرِّد بالعبادة أو المُتنسِّك.
 
 
والآن، لنعود ونلقي نظرة على العبارتين ونفهم الصورة الكاملة. من المؤكد بأنك قد سمعت عزيزي عن تشبيه أمور كثيرة بوجهي العملة الواحدة. وهنا اسمح لي أيضاً أن أشبه عبارتي عبيد الله وأبناء الله بوجهي العملة الواحدة، وقد تكون الكلمات التي تركها لنا السيد المسيح (إنجيل يوحنا 15: 15) أفضل تفسير لما ستقرأها خلال الأسطر التالية.
 
عندما قال المسيح تلاميذه: "لا أعود أسميكم عبيداً... لكني قد سميتكم أحباء" لم يقصد بها بأن الآيات التي كتبت فيما قبل عن عبيد الله أو الحالة التي وصف بها المؤمنيون بالله كانت خاطئة أو لم تعد تنطبق علينا نحن اليوم من ناحية أهمية عبادتنا لله والاستمرار في عبادته... ولو قرأت كل الآية لفهمت المعنى الكامل لها دون إدانة تعبير وإعلاء تعبير على آخر. فالكلمات الكاملة التي قالها المسيح هي: "لا أعود أسميكم عبيداً لأن العبد لا يعلم ما يعمل سيده. لكني قد سميتكم أحباء لأني أعلمتكم بكل ما سمعته من أبي"، فالعبد هو من لا يعلم ما يعمل سيده... ولكن بعد أن جاء المسيح إلى الأرض وعلـَّم التلاميذ وشرح لهم أسرار ملكوت السموات وأظهر لهم صورة الله الآب في كل ما عمل وعلـَّم وقال، أصبح التلاميذ ونحن اليوم أيضاً نعلم بكل الذي يعمله سيدنا الذي هو الله إلهنا وخالقنا ومالكنا وفادينا ومنقذنا من الهلاك ومن الشيطان وعبودية الخطية والفساد إلى حرية مجد أولاد الله (الرسالة إلى أهل رومية 8: 21).
 

نحبّ أن نسمع منك، فأسئلتك وتعليقاتك هي دائماً موضوع اهتمامنا!