البَيْتُ السَعيد

لا يتكوَّن البيت السعيد نتيجة للحظ أو الصدفة. إنه لا يُبنى أبداً على الحب الرومانسي. فالبيت السعيد لا يتكوَّن بمُجرَّد أن يتزوَّج رجل وامرأة ويُنجبا عدداً من الأطفال. تشير البحوث إلى أن أغلب البيوت بالكاد تحوز على السعادة الحقيقية الدائمة، وكثيراً ما تكون حالة المحبة - الكراهية هي العلاقة السائدة بين أفراد العائلة الواحدة. كما أن الإساءة الجسدية والنفسية تعم أغلب البيوت وتمزقها.
 
أين إذاً البيت السعيد؟ هل يمكن للبيت أن يكون ملجأ للراحة والسلام؟ هل يمكن للبيت أن يُوفــِّر الطمأنينة والدفء والألفة؟ هل يُمكن أن يكون سماءً صغيرة على الأرض؟
 
نعم، يمكن ذلك، فهذا ما يريده الله لنا. يجدر بنا أن نقرأ كلمته المقدَّسة وندرسها بعناية حتى تصبح جزءاً من تفكيرنا ومثالاً لتصرفاتنا. إن أساس البيت السعيد مبني على كلمة الله التي ترشدنا وتعلمنا ما يلي:
 
1.    لقد خلق الله كلاً من الرجل والمرأة مُتساويين «وقال الرب الإله ليس جيداً أن يكون آدم وحده. فأصنع له معيناً نظيره» (تكوين 2: 18).
 
2.    إن علاقة الزوج والزوجة يجب أن تسودها المحبة والخضوع والتضحية (أفسس 5: 21-32).
 
3.    الزواج مُقدَّس «فالذي جمعه الله لا يُفرِّقه إنسان» (متى 19: 6).
 
4.    الزواج من غير المؤمن غير مسموح به «لا تكونوا تحت نير مع غير المؤمنين. لأنه أية خلطة للبر والإثم. وأية شركة للنور مع الظلمة» (2كورنثوس 6: 14-16).
 
5.    أية ممارسات تـُدمِّر العلاقات في العائلة يجب أن تتوقف مثل: تعدد الزوجات، أفكار غير طاهرة، الطلاق، الزنى، والشذوذ... إلخ.
 
6.    «البنون ميراث من عند الرب» (مزمور 127: 3)، لذا يشترك كل من الوالدين في تحمُّل مسؤولية تربيتهم تربية صالحة «الرب إلهنا رب واحد. فتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قوتك ولتكن هذه الكلمات... على قلبك وقصَّها على أولادك وتكلم بها حين تجلس في بيتك وحين تمشي في الطريق وحين تنام وحين تقوم» (تثنية 6: 4-8).
 
7.    يجب أن يكون الله هو الأول والأخير في حياة العائلة وهو أساسها «إن لم يبنِ الرب البيت فباطلاً يتعب البناؤون» (مزمور 127: 1).
 
قبل الحديث عن البيت السعيد والعائلة السعيدة، علينا أولا أن نـُركـِّز على الوالدين وخطـَّة الله الأصلية لهما. لقد أسَّس الله الزواج في جنة عدن ليكون اتحاداً يدوم مدى الحياة بين رجل وامرأة في رفقة محبة مُتبادلة. وعهد الزواج ملزم حيال الله كما هو ملزم لكل من الزوجين. فالإيمان المشترك والمحبة المتبادلة والإحترام والشعور بالمسؤولية هي أساس هذه العلاقة التي عليها أن تعكس علاقة المحبة بين الله وعبيده. فإذا كان التوافق والانسجام يخيِّمان على العلاقة ما بين الزوجين، تصبح إمكانية العيش في بيت سعيد أمراً ممكناً.
 
إن الرجل والمرأة على رغم وحدانيتهما في الإنسانية إلا أنهما يختلفان في مسؤولياتهما. إنهما متساويان في الكينونة وفي القيمة الشخصية، لكنهما شخصان مختلفان. كان في وسع الله سبحانه أن ينشر الحياة على الأرض من دون أن يخلق ذكراً وأنثى، كما يحدث في التناسل اللاجنسي عند بعض أنواع الحياة الحيوانية. لكن الله صنع فردين متماثلين في الشكل العام والمميزات، ومع ذلك فكل منهما يضم في داخله شيئاً يعوز الآخر ويتكامل معه. وهكذا نجد أن الزواج كان وما يزال أساس العائلة بل أساس المجتمع.
 
يصف الكتاب المقدس الزواج كفعل حاسم من الإنفصال والإتصال معاً، إذ «يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بإمراته ويكونان جسداً واحداً» (تكوين 2: 24). فعلاقة الزواج من شأنها أن تسمو فوق علاقة الأهل والأطفال. بهذا المعنى يتيح إنفصال الإنسان عن والديه الاتصال بشريك الحياة من خلال رابطة زواج مُستديمة. ومن دون هذا الإجراء لا يُمكن أن يوجد أساس ثابت للزواج.
 
إنَّ متانة علاقة الوحدة ما بين الزوجين تأتي من أصل الكلمة العبرية التي تـُرجـِمَت "يَلتـَصِق". فالكلمة مُشتقة من فعل معناه "يلتزم – يتـَّحد – يتقيَّد". وإذا استـُعْمِلـَت كمصدر يُمكن أن تعني إلحاماً (اشعياء 41: 7). فأية محاولة لفصم هذا الاتحاد سيؤذي الشخصين المرتبطين بهذا الوثاق. وقد استخدم نفس هذا الفعل لإضفاء معنى الرباط الوثيق ما بين الله وشعبه، إذ نقرأ من الكتاب المقدس هذه الكلمات: «إيَّاه تعبد وبه تلتصق وباسمه تحلف» (تثنية 10: 20).
 
إننا نشدِّد على هذه فكرة الرّباط الوثيق ما بين الزوجين حتى نؤكـِّد على بُطلان الطلاق لأي سبب. فالكتاب المقدس يتحدَّث عن الوعد الذي يرتبط به الزوجان كأنه "عهد"، وهو المُصطلح الذي يُطلق على الاتفاق الأكثر قدسية والرباط الذي يجمع الزوج والزوجة معاً (ملاخي 2: 14؛ أمثال 2: 16 و17).
 يشهد الله وعائلتا الزوجين وأصدقاءهما وجماعة المؤمنين على العهد الذي يتبادله الزوجان. وهو عهد مُصدَّق عليه في السماء «فالذي جمعه الله لا يُفرِّقه إنسان» (متى 19: 6). ويفهم الزوجان المسيحيان أنهما عندما تزوجا فإنهما قد تعاهدا على الأمانة المتبادلة طوال حياتهما. هذا الإتحاد بين الزوجين هو سر عميق، فالكتاب المقدس يقول: «مِن أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكون الإثنان جسداً واحداً. هذا السر عظيم» (الرسالة إلى أهل أفسس 5: 31، 32). «يجب على الرجال أن يحبوا نساءهم كأجسادهم. مَن يُحب امرأته يُحب نفسه. فإنه لم يبغض أحد جسده قط بل يقوته ويُربيه» (الرسالة إلى أهل أفسس 5: 28 و29).
 
أن يغدو الزوجان جسداً واحداً يتضمَّن علاقة جنسية. فالتعاهد على الاتصال يفضي إلى الاتحاد بكل ما في الكلمة من معنى. تنطبق هذه الوحدة في البداية على الاتصال الجنسي في الزواج، ولكنها تتخطاها إلى الترابط الوثيق في الذهن والعواطف الذي يُثبِّت بدوره العلاقة الجسدية. إن الحب الطاهر ما بين الزوجين يجب أن يتميَّز بالدفء والفرح والبهجة. وهكذا تكون المحبة الزوجية هي تكريس ذاتي متبادل غير مشروط. المحبة غير الأنانية هي التي ينبغي أن تشكــِّل أساس الزواج والحب الحقيقي.
 
لقد وضَّح لنا الكتاب المقدس أسس المحبة الحقيقية إذ نقرأ هذه الكلمات: «المحبة تتأنى وترفق. المحبة لا تحسد. المحبة لا تتفاخر ولا تنتفخ ولا تـُقبِّح ولا تطلب ما لنفسها ولا تحتد ولا تظن السوء ولا تفرح بالإثم بل تفرح بالحق وتحتمل كل شيء وتـُصدِّق كل شيء وترجو كل شيء وتصبر على كل شيء» (1كورنثوس 13: 4-8). مثل هذه المحبة موصولة بينبوع من القوة الأبدية، ويمكنها أن تستمر في العطاء كيفما كان الحال - حتى لو كان الشخص الآخر غير أهل لهذه المحبة، فهي محبة غير مشروطة مثلما هي محبة الله لنا. متى كانت هذه المحبة هي أساس العلاقة ما بين الزوجين، سيترعرع الأطفال في جو صحي، ومتى كبروا وصارت لهم عائلات خاصة بهم، سيعكسون في وسطها تلك الصورة التي تجلــَّت لهم في بيتهم السعيد وهم بعد في طور النمو.
 
متى تعاهد الطرفان، عليهما أن يتحملا مسؤولية الخيارات التي يتــَّخذانها، وهذا يعني ألا يلوم أحد الطرفين الطرف الآخر على ما قام به الاثنان معاً. كما وينبغي لكل طرف أن يتولـَّى مسؤولية نموِّه الروحي، فليس على أي منهما أن يتــَّكل على القوة الروحية للطرف الآخر، مع أن علاقة كل منهما مع الله قد تصبح مصدر قوة وتشجيع للطرف الآخر.
 
تنحصر مسؤولية الوالدين الكبرى، بعد تعهداتهم للرب وواحدهم للآخر، بالأولاد الذين أتوا بهم إلى العالم. عليهم أن يقدِّموا مصالح أولادهم على رفاهيتهم، فالأطفال لم يختاروا المجيء إلى العالم، ويجب أن تـُقدَّم لهم أفضل إنطلاقة ممكنة في الحياة. كما ينبغي أن تكون محبة الوالدين غير مشروطة وقائمة على تضحية الذات (حتى لو لم يقابلها الأولاد بمحبة مماثلة)، فهي ضرورية لهم حتى يُكوِّنوا صورة ذاتية حسنة ويحصلوا على إشباع عاطفي طوال الحياة.
فالأطفال الذين يضطرون إلى اكتساب المحبة أو يشعرون أنهم منبوذون أو هامشيون سيحاولون كسب محبة والديهم بتصرفات غير مرغوب فيها. أما إذا اطمأن الأطفال إلى محبة والديهم فسيتواصلون مع الآخرين وسيتعلَّمون أن يعطوا بمقدار ما يأخذون وأكثر.
 
على الأب - بوصفه القائد الروحي للعائلة، أن يحذو حذو النبي إبراهيم في أن يجمع أفراد عائلته مع بعض في بداية كل يوم ويعهد بها إلى عناية الله. وعند المساء، عليه أن يقود عائلته في تمجيد الله وشكره على البركات التي أغدقها سبحانه عليهم. إن عبادة العائلة لله هي الرباط الذي يشدُّها معاً. والأب الحكيم عليه أيضاً أن يقضي وقتا مع أطفاله. فالطفل قد يتعلـَّم أشياء عديدة مِن والده مثل احترام أمه ومحبتها ومحبة الله، وأهمية الصلاة، ومحبة سائر الناس. فإذا كان الأب بعيداً عن البيت، يُحرم الولد من هذا الامتياز والفرح.
 أما أعظم دور يمكن للأم أن تقوم به فهو تـشكيِل أخلاق الأبناء، وتلبية احتياجاتهم، وتعليِمهم، وفوق كل هذا أن تكون بجوارهم عندما يحتاجون إليها. إنَّ مسؤوليات الأم مهمة جداً وعملها يتعدَّي الزمن الراهن ليشمل الحياة الأبدية.
 
على الأم والأب أيضاً إظهار روح التفاؤل دائماً، وأن يكونا مبتهجين ولطيفين، مخلصين وكريمين، رحيمين ومُحبّين. وعليهما أيضاً أن يكونا مُؤدِّبين جيِّدين. يقول الكتاب «ربِّ الولد في طريقه فمتى شاخ أيضاً لا يحيد عنه» (أمثال 22: 6). إن التأديب يتضمَّن أكثر من القصاص. فالقصاص يتعامل مع الماضي، بينما التأديب يتعامل مع المستقبل. وإليك هذه الوصايا للتأديب البنـَّاء:
 
1.    لا تـُعاقب ابنك (سواء بالكلام أو الفعل) في وقت غضبك.
 
2.    أحِب ابنك بدون شروط.
 
3.    إغرس في إبنك محبة الله والقريب من خلال مثالك وكلامك.
 
4.    علــِّم ابنك عبادة الله وأعدَّه للأبدية.
 
5.    أدِّب ابنك بحزم ولطف.
 
6.    ساعد ابنك حتى يتدرَّب ويُمارس قدرته على الاختيار.
 
7.    برهن لابنك يومياً بأنه عزيز عليك وعلى الله تعالى.
 
8.    كن أنت المُعلــِّم الأول لابنك ولا تـُعطي هذه المسؤولية لأحد أو لأي شيء (معلـِّم، قريب، تلفزيون، كتب، غير ذلك).
 
9.    اقض ِمع ابنك يومياً ما لا يقل عن ثلاثين دقيقة.
 
10.                      يجب أن تـُصلـِّي مع ابنك ومن أجله.
 
إن تأديب الطفل هو تدريبه منذ الصغر، وهذا بدوره يُعلــِّم مبادئ مهمة مثل الأمانة والصدق والعدل والاستقامة والصبر والرحمة والكرم وحُب العمل والطاعة. عندما يتعلم الأطفال باكراً إطاعة والديهم، لا يعود أمر احترام السلطات يـُشكـِّل أي تحدٍّ لهم في المستقبل. لكن نوع الطاعة التي يتعلـَّمها الطفل مهم أيضاً.
 
فالطاعة الحقيقية لا تأتي فقط لأنها مطلوبة بل لأنها تنبع من الداخل. فالإنسان الذي يحاول إطاعة وصايا الله لأنه مُلزَم بذلك أو لأنه مُطالـَبٌ بذلك لن يحصل أبداً على فرح الطاعة لأنها ليست طاعة حقيقية... إن الطاعة الحقيقية تنبثق من محبة عمل الصلاح ومحبة شريعة الله، فولاؤنا لله ومحبتنا له تجعلاننا نفعل الحق لأنه هو حق. إنَّ الطاعة مبدأ أساسي يجب تعليمه للطفل من خلال التأديب.
 
إن المنزل هو المكان الأول الذي يعدِّنا ويجهِّزنا للحياة في السماء. وهو المكان الذي توضع فيه مبادئ الله الحقيقية ووصاياه موضع التنفيذ. إن العائلة السعيدة التي يُطبِّق أفرادها مبادئ الله، إنما يعكسون صفاته سبحانه. لسوء الحظ يندر في أيامنا هذه التعرُّف على عائلات بهذه الصفات، بل إننا نلاحظ عوضاً عن ذلك، عائلات تتـَّسم بالأنانية، الخِصام، العصيان، الغضب والقسوة. فهل ستسعى لتأسيس عائلة سعيدة مبنية على أساس عبادة الله وعمل مرضاته...!
 

نحبّ أن نسمع منك، فأسئلتك وتعليقاتك هي دائماً موضوع اهتمامنا!